استبداد الخبراء وعصر غياب استقلالية البنك المركزي أين نحن الآن؟
بقلم فاروق محمد نور
موظف سابق بالبنك المركزي السوداني
موظف حالي بالبنك المركزي العماني
Tyranny of Experts and the lack of CB Independence Where are We?
Central Bank Independence: Why do we Care? How do we build it?
#لطالما استمر غياب استقلالية االبنك المركزي وتضخم (G-T) أي عجز الموازنة (سيسقُط) أي محافظ يتم تعيينه (مهما كانت قدراته الفنية)، فلماذا كل هذا التهكم (أو السخرية) على موظفي بنك السودان المركزي من قبل بعض (الخبراء) والذين تتم استضافتهم على شاشات التلفاز وبعض الصحف اليومية، نتيجةً للإقالات المتكررة لمحافظي البنك؟!!!
“ألا ينبغي لخبراء الإقتصاد أن يسألوا أنفسهم عن ما إذا كان المبرر أخلاقياً تقديم المشورة، ولو حتى الفنية فقط، لحكومات إنتهازية وفاسدة وغير ديمقراطية (من كتاب استبداد الخبراء of Experts The Tyranny ) المنشور في 4 مارس 2014م للكاتب ويليام إيسترلي أستاذ العلوم الإقتصادية بجامعة نيويورك”.
نورد في هذا الشأن بأنه تتوفر بالبنك المركزي خبرات وكفاءات مقدّرة وشباب/ات متميز (حاصل على شهادات مهنية متنوعة في المجالين المصرفي والتقني) وشهادات أكاديمية عُليا متحصل عليها من أرقى الجامعات ذات التصنيف المتقدم في (إنجلترا، أمريكا، اليابان، وغيرها)، ولا يزال الطموح مستمراً لنيل هذه الشهادات وبصورة راتبه، ودي “حقيقة لم يعد ينتطح حولها عنزان ” العلم في لكن البسمع منو”.، ودي مقولة شهيرة للأخ مازن محمد بشير (Mazin Hamza).
ولماذا لا يتحدث هؤلاء الخبراء “بكامل الشجاعة” عن حساسية متغيرات الإقتصادية الكلية (Sensitivity of Macroeconomic Fundamentals) للتدخل السياسي المباشر وبالتالي وأد استقلالية البنك المركزي، وعدم تغيير سلوك الحكومة من حيث الإلتزام بالإجراءات التقشفية المعُلنة (Austerity Measures) رغم الضائقة المالية والإقتصادية الطاحنة (Severe Economic & Financial Woes).
عليه، سوف نقسم المقال إلى جزئين: يوضح الجزء الأول شهادة إنصاف وبحيادية تامة لموظفي بنك السودان المركزي الحاليين. ويوضح الجزء الثاني أمثلة عملية لعبت دوراً في إقالة محافظي البنك المركزي و(ستُسقِط) أي محافظ قادم “مهما كانت قدراته الفنية” ما لم تزول تلك الأسباب وإلا سنكون “عايشين في بيئة الإقالات دي (Dismissal Spiral Env )”.
أولاً: شهادة حق
وهذه شهادة مني مبنية على حقائق (وليست سوشال ميديا) لأنني عملت سابقاً لمدة (9) تسع سنوات بالبنك مع كوكبة متميزة أسهمت في رسم مستقبلي المهني، ولكن غياب الإستقلالية هذه وكذلك العجز المستمر في الموازنة رش مزيداً من الملح على جسد الإقتصاد المتهالك، الأمر الذي بالطبع أجبرنا على الترجُل وترك البنك كما هوحال الضحايا من الأصدقاء مثلي والذين غادروه. وتلكم الأسباب للأسف وضعتنا في وش المدفع (Canon Foder)، وكانت الخلاصة (bottom-line)، هي الحل الرُكني (the Corner Solution) كما في أدبيات الاقتصاد، والمعنى واضح…. وعلى إدارة الموارد البشرية بالبنك القيام بالواجب المطلوب للحفاظ على الشباب.
أما بخصوص التشكيك البائن لهؤلاء (الخبراء) في قدرات وإمكانات السيد/ حسين يحى جنقول المحافظ المُكلّف، نود أن نشير هنا أنه ومنذ خروج د.صابر من البنك المركزي لم يأتِ للبنك محافظ مؤهل من الناحية الفنية مثل حسين يحي وبصفة خاصة في الإقتصاد النقدي (Monetary Economics) بالإضافة لمعرفته بالمسائل الرقابية والمصرفية، وهذه النقطة تحديداً مهمة جداً جداً لعمل أي محافظ بنك مركزي حول العالم. ونخص هنا بالذكر د. نجم الدين حسن إبراهيم (Nagmeldin Hassan Ibrahim) وهو حالياً مدير عام بالبنك ويولي أهمية قصوى منذ زمن بعيد لهذا الجانب في عمله. عليه، لا استطيع أن أجزم بنحاجه في مهمته وذلك لوجود الأسباب الواردة في الجزء الثاني من هذا المقال.
ولكن ربما يكون هناك قصور لموظفي البنك في أداء مهامهم (هذا وارد وصحيح) وخاصة فيما يتعلق بالسياسات المصرفية وسيات الصادر والوارد وسياسات نظم الدفع وغيرها، وهذا القصور (لم يظهر خلال فترة ما يسمي ب Oil Boom مقارنة بالصورة التي يراها الجمهور حالياً). إذ أن الضغوطات على بعض الإدارات بالبنك المركزي من قبل وزارة المالية وبعض الجهات الحكومية هي ضغوطات لا يمكن تصورها وهذه تحدث ربكة للموظفين في الاطلاع بمهامهم.
“وتحضرني هنا مسألة مهمة (Technically Perfect Argument) وهي مرة من المرات كان معنا خبراء صندوق النقد الدولي وفي اجتماع مشهود قالوا يا جماعة نحن هنا لتقديم العلاج للمريض دا (الإقتصاد السوداني) وكم مرة أديناهو الأدوية (Medication) دي ولكن المريض رفض استخدام الدواء لذا أهي دي النتيجة”. وبالطبع فإن المسائل السياسية والمصالح الضيقة هي قد وقفت صداً منيعاً للإصلاح الإقتصادي منذ زمنٍ بعيد (مع العلم ما كل روشتات الصندوق هي مفيدة ولكن لحد كبير كانت مهمة للسودان الإقتداء بها). ولذا هنا لا يد لموظفي بنك السودان المركزي في التكلفة الناجمة عن القرار السياسي، بالرغم توفر الحلول الفنية المقدمة من قبل هؤلاء الموظفين فلا أحد أخذ بذلك من الساسة والنتيجة حدث ما حدث أمامكم حالياً. وأقول ذلك حالياً كإبراز للحقائق ( للخبراء الذين يطلقون التصريحات وعينهم للفيل… إلخ) وليست لدي أي مصلحة في المديين القصير والطويل في الإدلاء بتكلم الوقائع.
****************************
ثانياً: كيف أسهم غياب استقلالية البنك المركزي (CBOS Independence) ومتغير (G-T) في الإقالات المتكررة؟
في هذا الجزء نحاول تبسيط الفهم لهؤلاء الخبراء وكذلك عامة الناس حول نقطتان جوهريتان أسهمتا في (إسقاط/ إقالة) عدد (3+4) محافظين ووزراء مالية. وهما في تقديري (1) غياب إستقلالية بنك السودان المركزي و (2) عدم قدرة وزارة المالية على ضبط متغير ال(G-T) وهو المتغير الحاسم في إتساع فجوة سعر الصرف (Exchange Rate Premium) وبصفة خاصة منذ حدوث انفصال جنوب السودان في يوليو 2011م.
عليه، دعوني أطرح بعض التساؤلات ذات الصلة بالموضوع: لماذا توفر إستقلالية بنك السودان المركزي هي فكرة مفضلة لدينا؟ (Amir Abdellwahab)وما هي المزايا إذا كان لدينا بنك مركزي مستقل؟ وكيف نتفادى الإقالات المتكررة لمحافظي بنك السودان المركزي ما حدث بالسنوات الأخيرة؟ بالرغم من وجود عدد من الكفاءات والخبرات والشباب المتميز داخل البنك؟
تم تناول هذا النوع من الأسئلة أعلاه في جميع الدراسات والبحوث التطبيقية والتي صُممت لبحث العلاقة بين استقلالية البنك المركزي وأثرها في تحسين الأداء الإقتصادي للبلد المعني وكيف تكون النتيجة الإيجابية للتنسيق والتعاون بين البنك المركزي ووزارة المالية من حيث السياسات المالية والنقدية (Fiscal and Monetary Polices). وقدأشارت تلك الدراسات المشار إليها العلاقات التالية (لتوضيح الفكرة دعونا نأخذ الأمثلة التالية):
(1) وجود علاقة بين عجز الموازنة العامة للدولة (Budget Deficit= G- T) ومستوى إستقلالية البنك المركزي: وهنا فإن الاستقلالية للبنك المركزي تساعد في مقاومة وزارة المالية من حيث منح/ تخصيص التمويل النقدي لسد العجز (Monetize Deficit)، وبالتالي تقل نسبة عجز الموازنة إلي الناتج المحلي الإجمالي (GDP) كلما كان مستوى إستقلالية البنك المركزي حاضراً، والعكس هو الصحيح. ومن هنا يتبين لنا خطورة متغير ال (G- T) والدور الذي لعبه منذ انفصال جنوب السودان في يوليو 2011م في (إسقاط/ إقالة) عدد مقدر من وزراء المالية ومحافظي بنك السودان المركزي وعددهم ((3 + 4= 7 (منها دكتور محمد خير مرتين ) ).
كما تتمثل خطورة هذا المتغير في أنه يلعب دوراً محورياً في تحديد نموذج فجوة سعر الصرف (Exchange Rate Premium Model)، وهذا الأثر للأسف جاء نتيجةً لعدم (تغيير سلوك = فطام) الحكومة لنفسها بالرغم من فقدان عائدات البترول بسبب الإنفصال، واستمرت في نفس معدل (الشراهة) الأمر الذي أدي لإرتفاع الانفاق الحكومي (G) لمستويات قياسية مقارنة بالايرادات المتحصلة (T)، مما زاد اعتمادها على بنك السودان المركزي لتغطية العجر وتمويله بموارد نقدية أي عن طريق (نظرية رب رب) أي الطباعة (Monetary Financing)، بدلاً عن إعتماد وزارة المالية على موارد حقيقة (Non-monetary Resources) لتمويل ذلك العجز.
هذا الإجراء كان له الأثر البالغ على إرتفاع سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية في السوق الموازي (الأسود) وفي تقديري يمكن تسمية ذلك في الأدبيات الاقتصادية بإنتقال أثر سعر الصرف في معدلات التضخم (Pass-through of Exchange Rate) حيث يسبب إرتفاع سعر إرتفاع سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية في السوق الموازي إرتفاعاً في أسعار السلع والخدمات سواء المستوردة منها أو المحلية.
(2) وجود علاقة إرتباط عكسية (أي سالبة) بين متوسط معدلات التضخم ومستوى إستقلالية البنك المركزي: وتعني ببساطة إذا كان البنك المركزي بعيداً عن التدخلات والضغوطات السياسية، فإنه سيكون قادراً على تحقيق معدلات تضخم منخفضة وستكون لديه القدرة على المحافظة على استقرار الأسعار والعكس هو الصحيح وتتباين قدرة البنوك المركزية على التحكم في التضخم بحسب درجات استقلاليتها في البلد المعين. ونتيجةً لهذه الضغوطات السياسية من قبل الحكومة فإن بنك السودان المركزي لم يستطع القيام بتلك الوظيفة بالشكل المطلوب (من واقع الأرقام الفعلية والمنشورة في تقاريره المختلفة) وكذلك عدم التزام وزارة المالية بضبط الانفاق في الحدود الآمنة (Sustainable Limits)، الأمر الذي يضطرها كالعادة للبحث عن بنك السودان المركزي للقيام بعملية الإنقاذ (bailout). ولكن يجب التذكيز أن الهدف الرئيسي للبنك المركزي (CBOS Mandate)، هو إستقرار المستوى العام للاسعار وفق قانون بنك السودان وبالتالي مع غياب الإستقلالية تصبح مهمة البنك مستحيلة في إنجاز تلك المهمة.
(3) تسبب عدم الإستقلالية كذلك في ظهور مشكلة خطيرة أدت إلى النقص الحاد في الأوراق النقدية (Acute Shortages in the Banknotes ) والذي يعرف عند العامة ” بأزمة السيولة” وهذا جاء نتيجة للتوسع الكبير في عرض النقود لعام 2017م بسبب التمويل النقدي المقدم لوزارة المالية لمختلف الأغراض، وقد كانت محصلة ذلك هي ظهور “العملة المحلية كسلعة تباع وتشترى” وظهر الدولار في السوق الموازي بأسعار متعددة (كاش وشيكات فورية وما يعرف عليه بتسليم دبي)، مما تسبب في إرتفاع سعر الصرف في السوق الموازي وأوصل معدل التضخم لمستويات قياسية وذلك من خلال آلية الانتقال النقدي (Monetary Transmission Mechanism)والمذكورة أعلاه. ولكن هذا النوع من إنتقال أثر سعر الصرف في معدلات التضخم هو الأول من نوعه إذ أن السلع المستوردة سيتم تسعيرها لحد كبير بأسعار الدولار (وفق الشيكات الفورية وتسليم دبي).
بناءً عليه، سوف نخصص مقالاً منفصلاً لمشكة نقص الأوراق النقدية وما هي السيناريوهات التى يمكن اتباعها لتقليل حدة المشكلة وما هي فرص نجاح البنك لمركزي في تبني “الجنيه الإلكتروني” ونظم المدفوعات الأخرى لتسوية المعاملات. مما قد يعود ببعض بصيص أمل للثقة في الجهاز المصرفي. وسوف نتطرق لحجم الإصدار الأمثل للعملة من واقع النظريات المختلفة والتجارب الدولية (International Benchmarking)
****************************
وفي الختام دعني أطرح تلك التساؤلات: ما هي المزايا إذا كان لدينا بنك مركزي مستقل؟ وكيف نتفادى الإقالات المتكررة لمحافظي بنك السودان المركزي كما حدث بالسنوات الأخيرة؟ وماذا نتوقع من الكفاءات والخبرات والشباب المتميز داخل البنك؟
بما أن استقلالية البنك المركزي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتحسن النتائج الإقتصادية (Central Bank independence is most strongly linked with which economic outcome) كما أشارت عديد الدراسات. فإنه خلال الفترة 1989- 1992م قامت دول مثل كندا وشيلي ونيوزيلندة وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول بسن تشريعات وقوانين تضمن الاستقلال التام لبنوكها المركزية. وكنتيجة لسن تلك القوانين تحسنت النتائج الإقتصادية بشكل ملحوظ. وبالتالى لتحقيق دالة هدف البنك المركزي (CB Objective Function) وهو استقرار مستوى الأسعار ومن ثم الاستقرار النقدي والمالي والمساهمة في تحقيق نمو إقتصادي جيّد في الناتج المحلى الإجمالي لابد من وضع تشريعات واضحة تنظم العلاقة بين السلطة النقدية والمالية. وهذا الأمر يسهم في استقرار وظيفة محافظ البنك المركزي وبالتالي يستطيع الإستفادة من الافكار والرؤى التي يقدمها موظفي البنك في رسم وتصميم السياسات النقدية وسياسات النقد الأجنبي والسياسات الرقابية التى تؤمن سلامة الجهاز المصرفي بإعتباره المنصة لتنفيذ السياسات النقدية والتمويلية الصادرة من البنك المركزي. ويساعد توفر الاستقلالية هذا في اختيار قيادات البنك (محافظ ونوابه) من داخل المؤسسة وهذا في تقديري يسهم فى حفز الموظفين وإظهار قدراتهم الحقيقية ويسهم إيجاباً في الاستقرار النقدي والمالي المنشود. وكذلك هذا كله مرتبط بدور إدارة الموارد البشرية في عملية تقييم الأداء (Performance Appraisal) ونظام المكافاآت(Rewards System ) الضروري لبقاء هؤلاء الخبرات والشباب بالمؤسسة وتحقيق غاياتها وأهدافها.
وبناء على ما سبق، لابد من تذكيز قياديي البنك المركزي بالتوصيات التالية :
(1) تطوير وتحسين استراتيجية التواصل ( CBOS Communication Strategy) مع الجمهور ومع المشاركين في السوق المصرفي والمالي. ونلاحظ في المنطقة العربية لدى العديد من البنوك المركزية طرق تواصل عبر صفحاتها الرسمية في السوشال ميديا (تويتر وفيسبوك وغيرها) وذلك لعكس آخر التطورات الصادرة من البنك، حتى لا تستمر الدعاية السلبية عن البنك والعاملين به لهذا المستوى السائد اليوم.
(2) التركيز على محاربة التأثير السياسى والأشخاص ذوي النفوذ من السيطرة على قرار المصارف العاملة حتى تستطيع تلك المصارف تنفيذ سياسات وموجهات البنك المركزي.
(3) أن تضع إدارة الموارد البشرية ببنك السودان المركزي الحرص الواجب جداً (Due Diligence) للحفاظ على الشباب المؤهل حالياً بالبنك، لأن تكلفة الخروج ستكون مكلفة للمؤسسة بعد قدمت التدريب والتأهيل المطلوب.
وللاطلاع على مزيدٍ من المعرفة وأهمية الموضوع لنا بالسودان تحديداً، الرجاء بحث الأوراق أدناه في محرك البحث قوقل:
– البنك المركزي في المجتمع الديمقراطي (Central Banking in a Democratic Society )
– حوكمة البنك المركزي ودور إدارة المخاطر غير المالية (Central Bank Governance and the Role of Non-financial Risk Management )
– إعادة النظر في إستقلالية البنك المركزي، بعد الأزمة المالية العالمية، ماذا ينبغي عليه أن يكون نموذج البنك المركزي (Central Bank Independence Revisited: After the Financial Crisis, What should a model Central Bank look like? )